الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة، وعلى آله وصحبه أجمعين، ثم أما بعد:
فقد شهدت الساحة الثقافية جدلاً كبيراً حول ما يسمى بـ " القراءات الجديدة للقرآن الكريم "، متدثرة بالمناهج الحَداثية والعَلمانية (¬1)، ومتلفعة بالمقاصد والمصالح (¬2) ـوغيرها، لخلخلة ما اتفق عليه علماءالمسلمين، ونزع القداسة عن القرآن الكريم، والتشكيك في تواتره؛ وتحريف المعاني القرآنية، مع تناقض هذه المناهج وتعارضها مع مقاصد الشريعة الإسلامية، ومردُّ ذلك لعدم احترامها لخصوصيات القرآن الكريم، ودعوتها إلى (عقلنة) النص القرآني، واعتبار كل ما يعارض العقل شواهد تاريخية، ونزع القداسة عن القرآن الكريم، وربط الآيات القرآنية بالظروف والسياقات الزمنية، بما يعني أن القرآن الكريم ليس إلا نصّاً تاريخيّاً. (¬3)
¬__________
(¬1) - مصطلح (العَلمانية): مصطلح غربي الأصل، والنشأة، والمولد، ظهر في منتصف القرن الماضي، ويعني دنيوياً غير ديني، ويقابله بالانكليزية: secular ، وبالفرنسية: secularise أو Laique ، وهو كما ورد في معجم العلوم الاجتماعية: نسبة إلى (العَلم .. بمعنى: العالم)، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي، وهذه تفرقة مسيحية لا وجود لها في الإسلام .. والعَلمانية- بفتح العين- هي الترجمة الصحيحة على غير قياس لكلمة secularism الإنجليزية أو secularit الفرنسية، وهاتان الكلمتان لا صلة لهما بلفظ العلم ومشتقاته، فالعلم في الإنجليزية والفرنسية يعبر عنه بكلمة science والمذهب العلمي نطلق عليه كلمة scientism والنسبة إلى العلم هي scientific أو scientifique في الفرنسية والترجمة الدقيقة للكلمة هي " العالمانية " أو " الدنيوية " أو " اللادينية " ..
أما العلمانية في الاصطلاح: فهي دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين، وتعنى في جانبها السياسي بالذات .. اللادينية في الحكم، وهى اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم، والمذهب العلمي ((انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة ص 367. ود. منى الشافعي، التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن الكريم، عرض ونقد، ص 42 - 54 ود. محمد أحمد الفاضل: الاتجاه العلماني في علوم القرآن: 15 - 26. وانظر الدكتور أحمد إدريس الطعان: العلمانيون والقرآن الكريم: ص 119. ... ). وخلاصة القول: إن العَلمانية اسم لمذهب فكري، عقدي، اجتماعي، يهدف إلى حمل الناس على إبعاد الدين عن حياتهم، وعزل الدِّين عن الحياة الاجتماعية للأفراد، وعن شؤون الإدارة، والتعليم، والحكم.
(¬2) - انظر: محمد عابد الجابري في مواطن كثيرة من كتابه " بنية العقل العربي " على سبيل المثال ص 61 - 64، 550، 551، 564، 543. ولكن مقاصد من .. ؟ هل هي المقاصد التي أرادها الله عز وجل، أم مقاصد الانسان الغارق في دنيويته المحضة، ويريد تطويع كل شيء لخدمة هذه الدنيوية .. ؟؟ وكيف نصل إلى هذه المقاصد، هل يتم ذلك عبر القراءة المتأنية للنص، لمعرفة مراد الخالق عز وجل منه، أم عبر القراءة المستلبة للواقع والمصلحة، لليِّ عنق النص عبر ذريعة المقاصد، لكي يستجيب النص لما تمليه عليه إرادة القارىء .. ؟
(¬3) - هذا بالضبط ما يقصده المستشرقون وتلاميذهم من ترتيبهم للآيات حسب النزول. ليقوموا بقراءة النص قراءة تاريخية أي: تفسير النص القرآني وتحليله وفق معطيات التاريخ والواقع الذي كان سائداً عند نزوله. ومن ثم قصر دلالة النص وتطبيقه على ذلك الواقع ومعطياته، ولا يتعداه إلى المراحل التاريخية اللاحقة، وبذلك يفقد النص ديمومته وإطلاقيته. ويصبح قاصراً على مكان معين، وأشخاص معينين. مما يفقد النص عمومه وإلزاميته أيضا. وممن حمل لواء هذه الدعوة كثير من العلمانيين المعاصرين -، وكان الدكتور محمد عابد الجابري من أشد المتحمسين لها. " انظر: ابراهيم محمد طه بويداين- التأويل .. بين ضوابط الأصوليين وقراءات المعاصرين: دراسة أصولية فكرية معاصرة- ص 211"