بل وإنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا حين استقطبوا كل علماء الدنيا ومن كافة الجنسيات ليبنوا بنائهم العلمي ودولتهم المتقدمة علميا، وهو بالضبط ما نسخوه من المسلمين حينما بنى الخليفة العباسي المأمون دار الحكمة ببغداد واستقطب أكثر من خمسمائة عالم من شتى بقاع الدولة الإسلامية وفي كافة العلوم الطبيعية من فلك وكيمياء وهندسة ورياضية من رياضيات وحساب وجبر وعددية وطب ونبات وحيوان وغيرها، ثم حذا حذوه فيما بعد أمراء آخرون في الأندلس والقاهرة واستنبول.
إلا أن الفرق الجوهري بين الحالتين أن حضارة الإسلام وازنت بين الكفتين المادية والروحية، ولم تنتكس إلا عند ما تركت كفة الروح والأخلاق تسقط. بينما أخذ هؤلاء القوم الكفة المادية فقط بناء على ما يحملوه من اعتقاد منحرف، وضنوا أن رأسماليتهم وعولمتهم ستحميهم من قانون التأريخ وسنة اللّه في الأقوام الذين خلوا.
لقد ضرب القرآن الكريم مثلا لأولي الألباب في آل فرعون والذين من قبلهم الذين كفروا بآيات اللّه فأخذهم اللّه بذنوبهم، وينطبق هذا المثل في واقعيته مع أهل حضارة الغرب في زماننا هذا. هؤلاء الذين أخذوا من حضارة الإسلام العظيمة كل شيء متقن عظيم إلا الأخلاق والشرف والقيم، أي أنهم استخدموا كفة الميزان المادية وأهملوا الكفة الأخرى، وهنا سيكون مقتلهم إن شاء اللّه تعالى وكما تنبأ الكثيرون من علماؤهم وفلا سفتهم، وهذه التنبؤات ليست بعيدة عن الصحة فهي سنة اللّه في عباده، حيث يقول اللّه تعالى في سورة (الأنفال): ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)، (الأنفال).
وهذه السنة إذا طبقت على أهل الحضارة الغربية الذين مكن اللّه لهم الأرض وسخر لهم قواها، وآتاهم من كل الثمرات وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، ووسع لهم الأرزاق، فأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم خانوا أمانة القيادة والمسئولية، وطغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فهم أهل لأن يعمل اللّه فيهم سنته فيغير ما بهم ويسحب القيادة منهم وينقلها إلى غيرهم كما سحبت القيادة من القوة الثانية - الاتحاد السوفيتي - فجأة لأن الخراب كان في باطنها لا في ظاهرها وفي معنوياتها قبل مادياتها.